ورحلت جدتي, مضت في طريقها إلى الله, إلى الحكمة الأزلية والجمال المحض والخير الخالص,
عادت إلى انعتاقها متحررة من كل لفظ ومن كل معنى, من كل دافع ومن كل غاية,
إنها الآن خارج الزمان وخارج المكان, تهّوم في المطلق بخّفة وحبور.
* * *
ترى هل أدرك الرجال وهم يمضون بها مسرعين ليلقوها على عتبات السماء, هل أدركوا أنهم إنما يمضون بسِفر من الحكمة, بباقة من الآمال والأماني, بكومة من الآلام والهواجس والتنبؤات؛ إلى الهباء؟…
هل أدركوا أنهم يغّيبوون السماء بأمطارها وأنوارها وتموجاتها في بقعة من الأرض تتساوى فيها الأشياء وتنعدم الأزمنة؟.
هل أدركوا أنهم يهيلون التراب على سيزيف وصخرته؟.
* * *
ها أنا ذا أخترق بيوتا بنيت لأجساد بلى أرواح وأقف ببابك في خشوع,
بيني وبينك ألواح من التراب, لكن من المحال أن أدلف إليك أو تخرجي إلي,
صوتك الذي ولد في أذنّيَ منذ لحظة لا أتذكرها كما لا أتذكر أول مرة أجبت فيها حين دعيت باسمي, صوتك ذاك, لن يطرق وجداني هذه المرة مرحبا, ولن ينساب -كما تعودته- مرحا ومشتعلا في هذا الفضاء الشاسع,
أعلم أن بيتك الجديد هذا لن يسعد بضحكاتك ولن تبلل حوائطه دموعك,
أعلم أنه لن يستنشق عطر أثوابك العبق,
وأنك لن ترسلي في شرايينه زوارق من حكاياتك,
أعلم أن شيئا من ذلك لن يحدث,
فالقدمان التان قفزتا بخفة وأنتِ صبية ساكنتان, والقلب الذي حّلق بالحب وانزوى بالقلق وتردد بين االيأس والرجاء ساكن أيضا,
السكون هنا سرق حتى مرآة الخيال وهرب بكل التفاصيل الأخرى ,
لا شيء في بيتك الجديد هذا, حتى أنت لست هنا, ولست هناك في غرفتك؛ سريرك فارغ, مذياعك صامت, والقهوة باردة.
ربما كنت الآن بصحبة من ودعوك قبل زمن طويل: زوجك, ابنك, ابنتك, أقاربك, أحبابك, صاحباتك…
لا أدري كيف تستقبل الأرواح بعضها, ولا كيف تحتفي بالقادم الجديد,
لا أدري أي نوع من الحديث تتجاذب, وكيف ستفيق على حقيقة حياتها الجديدة, ومذاذا سيبقى من مشاعرها وطباعها وعاداتها.
* *
الموت ليس إلا تحولا آخر في سلسلة تحولات المادة, أما هذه الروح فهي جوهر خالد لا يفنى ولا يتحول, ربما لو أخبترتك بهذا يا جدتي قبل اليوم لما أدركت ماذا أعني لكنني أثق بأنك تمتاحين الآن من نبع المعرفة التامة واليقين الحق؛ لذا أسألك بإلحاح أن تزورينا خفية في غمامة من السكينة -كما تفعل الملائكة- وتمسحي بيدك الحانية على رؤوسنا, وتذّري بعضا من رضاك عنا في زوايا المكان.
ولك من ابن ابنك قبلة على الجبين, ودعوة صادقة بأن يمد الله روحك بالروح والراحة, آمين.